ام عيسى عضو فعال
عدد المساهمات : 122 نقاط : 56363 تاريخ التسجيل : 26/07/2009
| موضوع: قصه الدكتور العشماوي مع فتاة التقى بها في الطائرة الجمعة سبتمبر 11, 2009 7:11 pm | |
| بقلم الدكتور عبد الرحمن بن صالح العشماوي حفظه الله :
حينما جلست في المقعدالمخصص لي في الدرجة الأول من الطائرة التي تنوي الإقلاع إلى عاصمة دولةٍ غربية ،كان المقعد المجاور لي من جهة اليمين ما يزال فارغاً ، بل إن وقت الإقلاع قد اقتربوالمقعد المذكور ما يزال فرغاً ، قلت في نفسي : أرجو أن يظل هذا المقعد فارغاً ، أوأن ييسّر الله لي فيه جاراً طيباً يعينني على قطع الوقت بالنافع المفيد ، نعم إنالرحلة طويلة سوف تستغرق ساعات يمكن أن تمضي سريعاً حينما يجاورك من ترتاح إليهنفسك ، ويمكن أن تتضاعف تلك الساعات حينما يكون الأمر على غير ماتريد!
وقبيل الإقلاع جاء منشغل المقعد الفارغ ... فتاةُ في مَيْعة الصِّبا ، لم تستطيع العباءة الفضفاضةالسوداء ذات الأطراف المزيَّنة أن تخفي ما تميزت به تلك الفتاة من الرِّقة والجمال .. كان العطر فوَّاحاً ، بل إن أعين الركاب في الدرجة الأولى قد اتجهت إلى مصدرالرائحة الزكيَّة ، لقد شعرت حينها أن مقعدي ومقعد مجاورتي أصبحا كصورتين يحيط بهماإطار منضود من نظرات الرُّكاب ، حينما وجهت نظري إلى أحدهم ... رأيتُه يحاصر المكانبعينيه ، ووجهه يكاد يقول لي : ليتني في مقعدك ؛ كنت في لحظتها أتذكر قول الرسولعليه الصلاة والسلام فيما روي عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) (( ألا وإنَّ طيب الرجال ما ظهر ريحه ، ولم يظهر لونه ، ألا وإن طيبالنساء ما ظهر لونه ولم يظهر ريحه )).ولا أدري كيف استطعت في تلك اللحظة أن أتأملمعاني هذا الحديث الشريف ، لقد تساءلت حينها (( لماذا يكون طيب المرأة بهذه الصفة ))؟كانالجواب واضحاً في ذهني من قبل : إن المرأة لزوجها ، ليست لغيره من الناس ، وما دامتله فإن طيبَها ورائحة عطرها لا يجوز أن يتجاوزه إلى غيره ، كان هذا الجواب واضحاً ،ولكن ما رأيته من نظرات ركاب الطائرة التي حاصرت مقعدي ومقعد الفتاه ، قد زاد الأمروضوحاً في نفسي وسألت نفسي : يا ترى لو لم يَفُحْ طيب هذه الفتاة بهذه الصورة التيأفعمت جوَّ الدرجة الأولى من الطائرة ، أكانت الأنظار اللاَّهثة ستتجه إليها بهذهالصورة؟
عندما جاءت ((خادمة الطائرة )) بالعصير ، أخذتالفتاة كأساً من عصير البرتقال ، وقدَّمته إليَّ ، تناولته شاكراً وقد فاجأني هذاالموقف ، وشربت العصير وأنا ساكتٌ ،ونظرات ذلك الشخص ما تزال تحاصرني ، وجَّهت إليهنظري ولم أصرفه عنه حتى صرف نظره حياءً - كما أظن - ، ثم اكتفى بعد ذلك باختلاسالنظرات إلى الفتاة المجاورة ، ولما أصبح ذلك دَيْدَنَه ، كتبت قصاصة صغيرة (( ألمتتعب من الالتفات ؟ ))، فلم يلتفت بعدها . عندما غاصتْ الطائرة في السحاب الكثيف بعد الإقلاع بدقائق معدودات اتجه نظريإلى ذالك المنظر البديع ، سبحان الله العظيم ، قلتُها بصوت مرتفع وأنا أتأمل تلكالجبال الشاهقة من السحب المتراكمة التي أصبحنا ننظر إليها من مكان مرتفع ، قالتالفتاة التي كانت تجلس بجوار النافذة : إي والله سبحان الله العظيم ، ووجهتْ حديثهاإليَّ قائلة ً إن هذا المنظر يثير الشاعرية الفذَّة ، ومن حسن حظي أنني أجاورشاعراً يمكن أن يرسم لوحة ًشعرية رائعة لهذا المنظر ... لم تكن الفتاة وهيتقول لي هذا على حالتها التي دخلت بها إلى الطائرة ، كلا..لقد لملمت تلك العباءةالحريرية ، وذلك الغطاء الرقيق الذي كان مسدلاً على وجهها ووضعتهما داخل حقيبتهااليدوية الصغيرة ، لقد بدا وجهها ملوَّناً بألوان الطيف ، أما شعرها فيبدو أنها قدصفَّـفته بطريقة خاصة تعجب الناظرين ... قلت لها : سبحان من علَّم الإنسان ما لم يعلم، فلولا ما أتاح الله للبشر من كنوز هذا الكون الفسيح لما أتيحت لنا رؤية هذه السحببهذه الصورة الرائعة .. قالت: إنها تدلُّ علىقدرة الله تعالى ..... قلت: نعم تدل على قدرة مبدع هذا الكون و خالقه،الذي أودع فيه أسراراً عظيمة ، وشرع فيه للناس مبادئ تحفظ حياتهم وتبلَّـغهم رضىربهم ،وتنجيهم من عذابه يوم يقوم الأشهاد.قالت : ألا يمكن أن نسمع شيئاً من الشعر فإنيأحب الشعر وإن هذه الرحلة ستكون تاريخية بالنسبة إليَّ ، ما كنت أحلم أن أسمع منكمباشرة .....وسكتُّ قليلاً كنت أحاور نفسي حواراً داخلياً مُرْبكاً ، ماذا أفعل ، هلأبدأ بنصيحة هذه الفتاة وبيان حقيقة ما وقعت فيه من أخطاءٍ ظاهرة ، أم أترك ذلك إلىآخر المطاف ؟وبعد تردُّد قصير عزمت على النصيحة المباشرة السريعة لتكون خاتمة الحديثمعها. وقبل أن أتحدث أخرجت من حقيبتها قصاصاتٍ ملوَّنة وقالت : هذه بعض أوراقأكتبها ، أنا أعلم أنها ليست على المستوى الذي يناسب ذوقك ، ولكنها خواطر عبرت بهاعن نفسي ... وقرأت القصاصات بعناية كبيرة ، إني أبحث فيها عن مفتاح لشخصية الفتاة ... إنهاخواطر حالمة ، هي فتاة رقيقة المشاعر جداً ، أحلامها تطغى على عقلها بشكل واضح ،لفت نظري أنها تستشهد بأبيات من شعري ، قلت في نفسي هذا شيء جميل لعل ذلك يكونسبباً في أن ينشرح صدرها لما أريد أن أقول ، بعد أن قرأت القصاصات عزمت على تأخيرالنصيحة المباشرة وسمحت لنفسي أن تدخل في حوارٍ شامل مع الفتاة .. قلت لها : عباراتك جميلة منتقاة ، ولكنها لا تحمل معنىً ولا فكرة كما يبدو لي ، لم أفهممنها شيئاً ، فماذا أردتِ أن تقولي ....؟بعد صمتٍ قالت : لا أدري ماذا أردتُ أن أقول : إني أشعر بالضيق الشديد ، خاصة عندما يخيَّم عليَّ الليل ، أقرأ المجلات النسائيةالمختلفة ، أتأمَّل فيها صور الفنانات والفنانين ، يعجبني وجه فلانة ، وقامة فلانة، وفستان علاَّنة ، بل تعجبني أحياناً ملامح أحد الفنانين فأتمنَّى لو أن ملامحزوجي كملامحه ، فإذا مللت من المجلات اتجهت إلى الأفلام ، أشاهد منها ما أستطيعوأحسُّ بالرغبة في النوم ، بل إني أغفو وأنا في مكاني ، فأترك كل شيء وأتجه إلىفراشي ....، وهناك يحدث ما لا أستطيع تفسيره ، هناك يرتحل النوم ، فلا أعرف لهمكاناً .. عجباً ، أين ذلك النوم الذي كنت أشعر به وأنا جالسة ، وتبدأ رحلتي مع الأرق، وفي تلك اللحظات أكتب هذه الخواطر التي تسألني عنها ...... (( إنهامريضة )) قلتها في نفسي ، نعم إنها مريضة بداء العصر ؛ القلق الخطير ، إنها بحاجةإلى علاج .. قلت لها : ولكنَّ خواطرك هذه لا تعبر عن شيء ٍ مما قلت إنها عبارات برَّاقة، يبدو أنك تلتقطينها من بعض المقالات المتناثرة وتجمعينها في هذه الأوراق ... قالت : عجباً لك ، أنت الوحيد الذي تحدَّثت بهذه الحقيقة ،كل صديقاتي يتحدثن عن روعة ماأكتب ، بل إن بعض هذه الخواطر قد نشرت في بعض صحفنا ، وبعثَ إليّ المحرِّر برسالةشكر على هذا الإبداع ، أنا معك أنه ليس لها معنى واضح ، ولكنها جميلة . وهنا سألتها مباشرة :هل لك هدفٌ في هذه الحياة؟!بداعلى وجهها الارتباك ، لم تكن تتوقع السؤال ، وقبل أن تجيب قلت لها :هل لك عقل تفكرين به، وهل لديك استقلال في التفكير ؟ أم أنك قد وضعت عقلك بين أوراق المجلات النسائيةالتي أشرت إليها ، وحلقات الأفلام التي ذكرت أنك تهرعين إليها عندما تشعرين بالملل .هل أنتِ مسلمة ؟!..هنا تغيَّر كلشيء ، أسلوبها في الحديث تغيَّر ، جلستها على المقعد تغيَّرت ، قالت :هل تشك في أننيمسلمة ؟ ! إني - بحمد الله - مسلمة ُومن أسرة مسلمة عريقة في الإسلام ، لماذاتسألني هذا السؤال ، إن عقلي حرٌّ ليس أسيراً لأحد ، إني أرفض أن تتحدَّث بهذهالصورة .....وانصرفتإلى النافذة تنظر من خلالها إلى ملكوت الله العظيم .... لم أعلق على كلامها بشيء ، بل إنني أخذت الصحيفة التي كانت أمامي وانهمكت فيقراءتها ، ورحلت مع مقال في الصحيفة يتحدث عن الإسلام والإرهاب (( كان مقالاًطويلاً مليئاً بالمغالطات والأباطيل ، يا ويلهم هؤلاء الذين يكذبون على الله , ولاأكتمكم أنني قد انصرفت إلى هذا الأمر كلياً حتى نسيت في لحظتها ما جرى من حوار بينيوبين مجاورتي في المقعد ، ولم أكن أشعر بنظراتها التي كانت تختلسها إلى الصحيفةلترى هذا الأمر الذي شغلني عن الحديث معها - كما أخبرتني فيما بعد-، ولم أعد منجولتي الذهنية مع مقال الصحيفة إلا على صوتها وهي تسألني : أتشك في إسلامي ؟!قلت لها : ما معنى الإسلام؟!قالت : هل أنا طفلة حتى تسألني هذا السؤال ! قلت لها: معاذ الله بل أنت فتاة ناضجة تامةالنضج ، تُلوِّن وجهها بالأصباغ ، وتصفِّفُ شعرها بطريقة جيدة ، وتلبس عباءتهاوحجابها في بلادها ، فإذا رحلت خلعتها وكأنهما لا يعنيان لها شيئاً ، نعم إنك فتاةكبيرة تحس اختيار العطر الذي ينشر شذاه في كل مكان ...فمن قال إنك طفلة ... ؟!قالت : لماذا تقسوعليَّ بهذه الصورة ؟ قلت لها : ما الإسلام ؟ ... قالت : الدين الذيأرسل الله به محمد صلى الله عليه وسلم ، قلت لها : وهو كما حفظنا ونحن صغار (( الاستسلام لله بالتوحيد ، والانقياد له بالطاعة ، و الخلوص من الشرك )) ، قالت : إيوالله ذكرتني ، لقد كنت أحصل في مادة التوحيد على الدرجة الكاملة ! قلت لها : ما معنى (( الانقياد له بالطاعة )) ؟ سكتت قليلاً ثم قالت : أسألك بالله لماذ اتتسلَّط عليَّ بهذه الصورة ، لماذا تسيء إليَّ وأنا لم أسئ إليك؟ قلت لها : عجباً لك ،لماذا تعدّين حواري معك إساءة ؟ أين موطن الإساءة فيماأقول؟قالت : أنا ذكيةوأفهم ما تعني ، أنت تنتقدني وتؤنبني وتتهمني ، ولكن بطريقة غير مباشرة ..قلت لها : ألستمسلمة ؟قالت : لماذاتسألني هذا السؤال ؟ إني مسلمة من قبل أن أعرفك ، وأرجوك ألا تتحدث معي مرة أخرى .قلت لها : أنا متأسفجداً ، وأعدك بألا أتحدث إليك بعد هذا .....ورجعتُ إلى صفحات الصحيفة التي أمامي أكمل قراءة ذلك المقالالذي يتجنَّى فيه صاحبه على الإسلام ، ويقول : إنه دين الإرهاب ، وإن أهله يدعونإلى الإرهاب ، وقلت في نفسي : سبحان الله ، المسلمون يذبَّحون في كل مكان كما تذبحالشيِّاه ، ويقال عنهم أهل الإرهاب ...وقلبتُ صفحة أخرى فرأيت خبراً عن المسلمين في كشمير ، وصورةلامرأة مسلمة تحمل طفلاً ، وعبارة تحت صورتها تقول : إنهم يهتكون أعراضنا ينزعونالحجاب عنَّا بالقوة وأن الموت أهون عندنا من ذلك ، ونسيت أيضاً أن مجاورتي كانتتختلس نظرها إلى الجريدة ، وفوجئت بها تقول :ماذا تقرأ ؟ .. ولم أتحدث إليها ، بل أعطيتها الجريدة وأشرتبيدي إلى صورة المسلمة الكشميرية والعبارة التي نُقلت عنها ...ساد الصمت وقتاًليس بالقصير ، ثم جاءت خادمة الطائرة بالطعام ... واستمر الصمت ...وبعد أن تجوَّلتُفي الطائرة قليلاً رجعت إلى مقعدي ، وما إن جلست حتى بادرتني مجاورتي قائلة ً :ما كنت أتوقع أنتعاملني بهذه القسوة !.. قلت لها : لا أدري ما معنىالقسوة عندكِ ، أنا لم أزد على أن وجهت إليك أسئلة ً كنت أتوقع أن أسمع منك إجابةًعنها ،ألم تقولي إنك واثقة بنفسك ثقة ً كبيرة ؟ فلماذا تزعجك أسئلتي؟قالت : أشعر أنكتحتقرني ..قلت لها : من أين جاءك هذا الشعور؟قالت لا أدري . قلت لها : ولكنني أدري .. لقد انطلق هذاالشعور من أعماق نفسك ، إنه الشعور بالذنب والوقوع في الخطأ ، أنت تعيشين ما يمكنأن أسمّيه بالازدواجية ، أنت تعيشين التأرجح بين حالتين ... وقاطعتني بحدّة قائلة : هل أنا مريضة نفسياً ؟ ما هذا الذي تقول ؟!قلت لها : أرجو ألاَّ تغضبي ، دعيني أكمل ، أنت تعانين منازدواجيةٍ مؤذية ، أنتِ مهزومة من الداخل ، لاشك عندي في ذلك ، وعندي أدلّة لاتستطيعين إنكارها .قالت مذعورة ً : ما هي ؟قلت : تقولين إنك مسلمة ، والإسلام قول وعمل ،وقد ذكرت لك في أول حوارنا أن من أهم أسس الإسلام (( الانقياد لله بالطاعة )) ، فهلأنت منقادة لله بالطاعة ؟وسكتُّ لحظة ً لأتيح لها التعليق على كلامي ، ولكنها سكتتْولم تنطق ببنتِ شفةٍ - كما يقولون وفهمت أنها تريد أن تسمع ، قلت لها :هذه العباءة ، وهذاالحجاب اللذان حُشرا - مظلومَيْن - في هذه الحقيبة الصغيرة دليل على ما أقول ......قالت بغضب واضح : هذه أشكال وأنت لا تهتم إلا بالشكل ، المهم الجوهر .قلت لها: أين الجوهر؟ ها أنت قد اضطربت فيمعرفة مدلولات كلمة (( الإسلام )) الذي تؤمنين به ، ثم إن للمظهر علاقة قويةبالجوهر ، إن أحدهما يدلُّ على الآخر ، وإذا اضطربت العلاقة بين المظهر والجوهر ،اضطربت حياة الإنسان .... قالت : هل يعني كلامك هذا أنَّ كل من تلبسعباءة ً وتضع على وجهها حجاباً صالحة نقية الجوهر ؟ قلت لها : كلا ، لمأقصد هذا أبداً ، ولكنَّ من تلبس العباءة والحجاب تحقِّق مطلباً شرعياً ، فإن انسجمباطنها مع ظاهرها ، كانت مسلمة حقّة ، وإن حصل العكس وقع الاضطراب في شخصيتها ،فكان نزعُ هذا الحجاب - عندما تحين لها الفرصة هيِّناً ميسوراً ، إن الجوهر هوالمهم ، وأذكِّرك الآن بتلك العبارة التي نقلتها الصحيفة عن تلك المرأة الكشميريةالمسلمة ، ألم تقل : إن الموت أهون عليها من نزع حجابها ؟ لماذا كان الموت أهون؟لأنها آمنت باللهإيماناً جعلها تنقاد له بالطاعة فتحقق معنى الإسلام تحقيقاً ينسجم فيه جوهرها معمظهرها ، وهذا الانسجام هو الذي يجعل المسلم يحقق معنى قول الرسول عليه الصلاةالسلام : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاًلما جئت به )) .إنَّ لبس العباءة والحجاب - عندك - لا يتجاوز حدود العادةوالتقليد ، ولهذا كان هيّناً عليك أن تنزعيهما عنك دون تردُّد حينما ابتعدت بكالطائرة عن أجواء بلدك الذي استقيت منه العادات والتقاليد ، أما لو كان لبسك للحجابمنطلقاً من إيمانك بالله ، واعتقادك أن هذا أمر شرعي لا يفرّق بين مجتمع ومجتمع ،ولا بلدٍ وبلدٍ لما كان هيّناً عليك إلى هذه الدرجة .الازدواجية في الشخصية - يا عزيزتي - هيالمشكلة .. أتدرين ما سبب هذه الازدواجية ؟فظننت أنها ستجيب ولكنها كانت صامتةً ، وكأنها تنتظر أنأجيب أنا عن هذا السؤال..قلت: سبب هذه الازدواجية الاستسلام للعادات والتقاليد ،وعدم مراعاة أوامر الشرع ونواهيه ، إنها تعني ضعف الرقابة الداخلية عند الإنسان،ولهذا فإن من أسوأ نتائجها الانهزامية حيث ينهزم المسلم من الداخل ، فإذا انهزمتمكن منه هوى النفس ، وتلاعب به الشيطان ، وظلَّ كذلك حتى تنقلب في ذهنه الموازين ....لم تقل شيئاً ،بل لاذت بصمت عميق ، ثم حملت حقيبتها واتجهت إلى مؤخرة الطائرة ... وسألت نفسيتراها ضاقت ذرعاً بما قلت ، وتراني وُفَّقت فيما عرضت عليها ؟ لم أكن - في حقيقةالأمر - أعرف مدى التأثر بما قلت سلباً أو إيجاباً ، ولكنني كنت متأكداً من أنني قدكتمت مشاعر الغضب التي كنت أشعر به حينما توجه إليَّ بعض العبارات الجارحة ، ودعوتلها بالهداية ، ولنفسي بالمغفرة والثبات على الحق ...وعادت إلى مقعدها .. وكانت المفاجأة ، عادتوعليها عباءَتُها وحجابها ..... ولا تسل عن فرحتي بما رأيت !قالت : إن رحمة اللهبي هي التي هيأت لي الركوب في هذا المقعد ، صدقت - حينما وصفتني - بأنني أعاني منالهزيمة الداخلية ، إن الازدواجية التي أشرت إليهاهي السمة الغالبة على كثير منبنات المسلمين وأبنائهم ، يا ويلنا من غفلتنا ! إنَّ مجتمعاتنا النسائية قداستسلمتْ للأوهام ، لا أكتمك أيها الأخ الكريم ، أن أحاديثنا في مجالسنا نحن النساءلا تكاد تتجاوز الأزياء والمجوهرات والعطورات ، والأفلام والأغاني والمجلاتالنسائية الهابطة ، لماذا نحن هكذا ؟هل نحن مسلمون حقاً ؟هل أنا مسلمة؟
كانسؤالك جارحاً ، ولكني أعذرك ، لقد رأيتني على حقيقة أمري ، ركبت الطائرة بحجابي ،وعندما أقلعت خلعت عني الحجاب ، كنت مقتنعة بما صنعت ، أو هكذا خُيِّل إليَّ أنيمقتنعة ، بينما هذا الذي صنعته يدلُّ حقاً على الانهزامية والازدواجية ، إني أشكركبالرغم من أنك قد ضايقتني كثيراً ، ولكنك أرشدتني ، إني أتوب إلى الله وأستغفره . ولكن أريد أن أستشيرك ..قلت وأنا في روضةٍمن السرور بما أسمع من حديثها : (( نعم ... تفضلي إني مصغ ٍ إليك )) .قالت : زوجي ، أخافمن زوجي ..قلت : لماذا تخافين منه ، وأين زوجك ؟قالت : سوف يستقبلني في المطار ، وسوف يراني بعباءتي وحجابي ....قلت لها : وهذاشيء سيسعده ....قالت : كلا ، لقد كانت آخر وصية له في مكالمته الهاتفية بالأمس : إياك أن تنزلي إلىالمطار بعباءتك لا تحرجيني أمام الناس ، إنه سيغضب بلا شك .قلت لها : إذا أرضيت الله فلا عليك أن يغضبزوجُك ، و بإمكانك أن تناقشيه هادئ فلعلَّه يستجيب ، إني أوصيك أن تعتني به عنايةالذي يحب له النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة .وساد الصمت ....... وشردت بذهني في صورةخيالية إلى ذلك الزوج يوصي زوجته بخلع حجابها ... أهذا صحيح؟!أيوجد رجل مسلمغيور كريم يفعل هذا ؟! لا حول ولا قوة إلا بالله ، إن مدنية هذا العصر تختلس أبناءالمسلمين واحداً تلو الآخر ، ونحن عنهم غافلون ، بل ، نحن عن أنفسنا غافلون .وصلت الطائرة إلىذلك المطار البعيد ، وانتهت مراسم هذه الرحلة الحافلة بالحوار الساخن بيني وبينجارة المقعد ، ولم أرها حين استقبلها زوجها ، بل إن صورتها وصوتها قد غاصا بعد ذلكفي عالم النسيان ، كما يغوص سواها من آلاف الأشخاص والمواقف التي تمر بنا كلَّ يوم ...كنت جالساً علىمكتبي أقرأ كتاباً بعنوان (( المرأة العربية وذكورية الأصالة )) لكاتبته المسمَّاة ((منى غصوب )) وأعجبُ لهذا الخلط ، والسفسطة ، والعبث الفكري واللغوي الذي يتضمَّنههذا الكتاب الصغير ، وأصابني - ساعتها - شعور عميق بالحزن والأسى على واقع هذهالأمة المؤلم ، وفي تلك اللحظة الكالحة جاءني أحدهم برسالة وتسلَّمتها منه بشغف ،لعلَّي كن أودُّ - في تلك اللحظة - أن أهرب من الألم الذي أشعله في قلبي ذلك الكتابالمشؤوم الذي تريد صاحبته أن تجرد المرأة من أنوثتها تماماً ، وعندما فتحت الرسالةنظرت إلى اسم المرسل ، فقرأت : (( المرسلة أختك في الله أم محمد الداعية لك بالخير )) .أم محمد ؟ منتكون هذه ؟! وقرأت الرسالة ، وكانت المفاجأة بالنسبة إليَّ ، إنها تلك الفتاة التيدار الحوار بيني وبينها في الطائرة ، والتي غاصت قصتها في عالم النسيان !إن أهم عبارة قرأتهافي الرسالة هي قولها : (( لعلَّك تذكر تلك الفتاة التي جاورتك في مقعد الطائرة ذاتيوم ، إِني أبشِّرك ؛ لقد عرفت طريقي إلى الخير ، وأبشرك أن زوجي قد تأثر بموقفيفهداه الله ، وتاب من كثير من المعاصي التي كان يقع فيها ، وأقول لك ، ما أروعالالتزام الواعي القائم على الفهم الصحيح لديننا العظيم ، لقد قرأت قصيدتك )) ضدانيا أختاه (( وفهمت ما تريد )) !لا أستطيع أن أصور الآن مدى الفرحة التي حملتني على جناحيهاالخافقين حينما قرأت هذه الرسالة .... ما أعظمها من بشرى ..... حينما ، ألقيت بذلكالكتاب المتهافت الذي كنت أقرؤه (( المرأة العربية وذكورية الأصالة ) ، ألقيت بهوأنا أردد قول الله تعالى : { يُرِيدُونَ أن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِبَأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَالْكافِرُونَ } ....ثم أمسكت بالقلم ... وكتَبْتُ رسالةً إلى (( أم محمد )) عبَّرْتُ فيها عن فرحتي برسالتها ، وبما حملته من البشرى ، وضمَّنتها أبياتاً منالقصيدة التي أشارت إليها في رسالتهاوعندما هممت بإرسال رسالتي ، تبيَّن لي أنها لم تكتبعنوانها البريديَّ ، فطويتها بين أوراقي لعلّها تصل إليها ذات يوم .
من روائع ما قرأت | |
|